من هو المثقف؟ وما هي الثقافة؟
الدكتور - يحي الرخاوي
أستاذ الطب النفسي جامعة القاهرة
نستعمل هذه الأيام بوفرة وافرة كلمات عريقة مثل "الثقافة "و "الحضارة", ثم ظهرت كلمات أكثر شبابا ولمعانا مثل "المعلوماتية"و"الشفافية", وما بين هذا وذاك تقفز كلمات أقل انتشارا وغموضا مثل "المدنية و "العمران" كل هذه الكلمات تحتاج إلى وقفة تتساءل: هل نحن متفقون على ما نعنيه بهذه الكلمات؟ وهل نفهم بعضنا البعض ونحن نستعملها؟ نبدأ بأشهر هذه الكلمات "الثقافة".
ماذا نقصد بهذه الكلمة "الثقافة"؟. وهل المجلس الأعلى للثقافة (مثلا) مجلس مثقفين (بتشديد القاف وفتحها) أم هو مجلس مثقفين (بتشديد القاف وكسرها) ؟ وهل استعمال كلمة ثقافة يشير إلى ما تشير إليه كلمة "مثقفون" أم أن الاختلاف قائم حسب السياق؟
أصل الكلمة العربية "ثقف", لا يفيد كل الاستعمالات الأحدث لتشكيلاتها. "ثقف": (تعني) "صار حاذقا فطنا," و"ثقف" الشيء ظفر به (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أما "الثقافة" بمعني: العلوم والمعارف والفنون التي يـطلب فيها الحذق فهي مـحدثة (الوسيط).
هذا التوجه المعجمي الأحدث هو الاستعمال الشائع لألفاظ الثقافة والمثقفين. لكن للأمر وجوه أخري. الكلمة المقابلة بالإنجليزية (وبالفرنسية) Culture تحمل نفس الإشكالية تقريبا, فهي من ناحية (1) تعنى هذا النشاط الذي يقوم به صفوة من الذهنيين المتميزين الحاذقين المبدعين, ومن ناحية أخرى (2) تشير إلى صفات مشتملة لمجموعة من الناس تجمعهم لغة واحدة ويحيط بهم وسط اجتماعي وبيئي معين. وقد بدأ استعمال لفظ"الثقافة" في العربية بالمعنى الأول (الصفوة الحاذفة الماهرة المبدعة) ثم امتد استعماله إلى المعنى الثاني (الوعي المحيط المميز لمجموعة من البشر), فماذا يفعل القارئ العادي وهو يتلقى المعنيين متداخلين دون تمييز ؟ مثلا: حين نخاطب القارئ العادي بتعبيرات مثل:"مستقبل الثقافة" أو"تطور الثقافة ", أو" صفحة الثقافة", أو "أزمة المثقفين" أو "اغتراب المثقفين", هل هذا المعنى هو نفس المعنى الذي نعنيه ونحن نقول "ثقافة العولمة" أو "ثقافة المعلوماتية" أو حتى "ثقافة الأغنية الهابطة" و"ثقافة الإنترنت"؟
الثقافة بالمعنى الأحدث هي جماع وعى مجموعة من الناس في بقعة جغرافية معينة , في فترة تاريخية بذاتها, وجماع الوعي هذا يشمل اللغة والعادات والأعراف والتقاليد والقيم والدين, وغلبة أنواع بذاتها من نشاطات ملء الوقت وتوجهات الإنجاز. نلاحظ أن كل هذا لا يشير من قريب أو بعيد إلى "فئة بذاتها", ولا إلى أي خصوصية في الحذق والفطنة. وبالتالي فهو لا يفيد تحديد "صفوة ما, هذا معنى يسمح لأي منتم لثقافة بذاتها أن يكون مشروع مثقف, لأن المثقف من خلال هذا التحديد" "هو أي واحد يستطيع أن يستوعب وعى جماعته ويمثلهم في نفس الوقت. هو نموذج لجماعته ولسانها, ما ظل يصدق في الانتماء لها بقدر ما يساهم في تحديد هويتها .
المثقف إذن هو أي شخص بأي درجة من التعليم والتحصيل (يمكن أن يكون أميا نابها) يستطيع أن يساهم في الإحاطة بما ينتمي إليه , ومن ينتمي إليهم, كما يستطيع أن يشارك في دفع عجلة حياته وحياتهم إلى ما يمكن أن يكونوا, وهو معهم, ومنهم.
من هذا المنطلق يتسع مفهوم المثقف بشكل إيجابي، وينزل عن كرسيه الأعلى إلى بؤرة وعى الناس. فلا تصبح صفة المثقف قاصرة على وصف صفوة متميزة, تكاد تنفصل, بوعي أو بغير وعي، عن عامة الناس حتى لو كتبوا عنهم في قصة أو رسموهم في لوحة, أو نظموهم في قصيدة, إننا لو رضينا أن يقتصر لفظ "المثقف" على فرد من تلك الفئة التي تطلق على نفسها (فنطلق عليها) هذه الصفة "المثقفين" فإننا نستبعد بذلك عامة الناس, وفى النهاية نجد أنفسنا قد صنعنا فئة من الذهـنـيـن Intellectuals لا أكثر. وهى فئة لها العديد من المميزات والفضل, لكن ذلك لا يعطيها الحق في أن تصدر أحكاما , وتقود توجها ما دامت منفصلة عن المشاركة المباشرة المواكب لنبض وعى الناس إلا من خلال تشكيلات رمزية على ورق, أو تنويعات لونية أو صوتية في لوحة أو نغم.
حين يكون مشروع المثقف هو أي واحد من الناس, ينفتح الباب أمام كل الناس, كل في مجاله وفى جماعته, لتعميق وعى الجماعة وتطويرها. هذا دور منوط بكل عالم, وسياسي، وإعلامي، وتربوي، وواعظ, وحرفي، وعامل, يمارس وجوده بوعي يقظ, وعي لا يكف عن التساؤل والإضافة, وهو يمارس دوره الفاعل في جماعته.
يكاد دور هذا الفرد (المثقف: بمعنى الشخص الواعي المنتمى الفاعل) أن يكون اقتداء بدور الرسل عليهم السلام وهم يبلغون رسالات ربنا لإنقاذ البشرية من التخثر وإنقاذ النوع الإنساني من الانقراض. الفرق الجوهري هو أن دور هذا المثقف المقتدى بالرسل عليهم السلام هو أنه فرد عادى، يقوم بدوره الهام جدا في دائرته الصغيرة تماما, وهو ليس مكلفا تحديدا من قبل رب العالمين بهداية كافة البشر, لكن إسهاماته الفاعلة, ووعيه النشط, تضعه في مصاف عباد الله الذين فهموا معني: حمل الأمانة, وتحمل المسئولية. فحملها وهنا على وهن, ينقذ بها نفسه وناسه حتى لا يمضى ظلوما جهولا.
أعجبني هذا الموضوع وأرجوا أن أكون قد أصبت
فيما نقلت لكم
السبت 14 فبراير 2009, 4:52 pm من طرف السروري